الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

النظام الثقافي (الثقافة المنظمة)
الثقافة نظام أخلاقي وتعليمي
                                                             
       لقد تغيرت الظروف الانسانية وامكاناتها في مائة سنة أكثر مما تغيرت في العشرة آلاف سنة السابقة عليها ، ويمكن ان تسحقنا السنوات الخمسون القادمة ما لم نستطع أن نصنع أخلاقا أكثر قابلية للتكييف . وننتقل في العادة من حالة فوضى الى حالة أفضل تنظيما بطرق لا نعرف عنها شيئا . ويتم الانتقال بشكل نموذجي من خلال تأثير عقول الآخرين . ويعد الادب والفنون الوسائل الاساسية التي تنتشر بها هذه التأثيرات . وينبغي ألا يكون ضروريا الاصرار على درجة اعتماد الحضارة الراقية ، أي الحياة الحرة المتنوعة غير المسرفة ، على هذه الوسائل في مجتمع متعدد التغيرات الهامة في الظروف .
       ومع تزايد السكان أصبحت المشكلة التي تطرحها الهوة الفاصلة بين ما تفضله الاغلبية وما يجيزه بامتياز الرأى المؤهل ، أصبحت أكثر خطورة بدرجة كبيرة ومن المحتمل انها تهددنا في المستقبل القريب . وتصبح المعايير في حاجة ماسة الى الذود عنها أكثر مما هو معتاد ، وذلك لمبررات عديدة .
       ويتفاعل تزايد السكان مع عنصر "حياد الطبيعة" وهو : الانتقال من النظرة السحرية للعالم الى النظرة العلمية .. ويستطيع العلم ان يحدد لنا مكانة الانسان في الكون ويحدثنا عن الفرص المتاحة له .. لكن ليس في استطاعته أن يحدد كينونتنا أو ماهية هذا العالم ، ولا يرجع ذلك الى أن هذه الاسئلة عصية الحل بأي معنى انما يرجع الى أنها ليست أسئلة على الاطلاق . واذا كان العلم لا يتمكن من الاجابة على هذه الاسئلة الكاذبة أكثر مما تستطيع الفلسفة أو الدين ، لذلك فأن جميع الاجابات المتنوعة التي اعتبرت لعصور عديدة مفاتيح الحكمة ذابت في بعضها البعض . مما تمخض عنه أزمة بيولوجية من غير المحتمل حسمها دون خلق الانزعاج .
        مشكلة على مستوى المعايير والوعي :
        والمشكلة في أحد مستوياتها هي الدفاع عن المعايير : ايجاد المبررات الكافية لتعضيد معايير الأقلية في مواجهة الأنتهاكات التجارية التي تتحكم في ذوق الاغلبية . وفي مستوى آخر يكون اكتشاف هذه المبررات هو السير الضروري في اتجاه الوعي الذي يجب على الانسان ان يصنعه اذا اراد أن يتحكم في مصيره الآن حيث ذهبت التوجيهات القديمة : ولم تعد ثمة (سفينة للنجاة) بل طائرة على قدر من الكفاءة والمقدرة للركوب .. وهذا هو الصخب المزعج للتغيير .
      الحلول النظرية واكتشاف الوعي :
      أن حل هذه المشكلات يكمن (بنظرية سايكولوجية للقيمة) . واعتبار الثقافة بديلا للفوضى ، لكن الثقافة باعتبارها فكرة يجب ألا ترسى على مفهوم للقيمة يستند الى (مفاتيح الحكمة) العتيقة ، بل يعتمد على ما يمكن اكتشافه في الوعي الجديد .
       تنظيم الدوافع :
       مسلك الحياة في شتى ضروبه ينشد تنظيم الدوافع لكي يفوز بالنجاح أكبر عدد منها وأهم مجموعة فيها وأخطرها . ويمكن تقسيم الدوافع الى :
-          (دوافع نزوع) (البحث عن) .
-         دوافع نفور .
      ويمكن أن يكون كلاهما لا شعوريين . ومن ثم : فأي شيء له قيمة هو الذي يشبع أحد دوافع النزوع دون أن يتضمن ذلك احباط دافع آخر يساويه أو يزيد عنه أهمية .
       أهمية الدوافع :
       ويحدد أهمية الدوافع على أساس : مدى اضطراب الدوافع الأخرى في مناشط الفرد ، وهو الاضطراب الذي يحدثه تعطيل هذا الدافع . وذلك الاضطراب هو سوء التنظيم . ويكون تعديل الدوافع هو عملية التنظيم ذاتها . ويناط السلوك السليم عندئذ بذلك التعديل والتنظيم . وتصبح القيمة مسألة تتعلق بنمو النظام . وعندما تنتقل المسألة من الفرد الى الجماعة ، يمكن الاجابة عليها بتعابير مماثلة . وتصبح أقصى درجات السعادة عند الاغلبية هي أعلى درجة من تنظيم اشباع الدوافع . وسوف يشذ بعض الافراد ، علوا أو هبوطا عن المستوى العام . ولا ينبغي أن تحل انواع التوتر التي تنشأ بشروط الاغلبية وفي اطارها ، انما ينبغي أن تحل عن طريق : ( المجال الفعلي ودرجة الاشباع اللذان تثمرهما واختلاف النظم المتاحة للدوافع ) .
       أهمية الأدب والفنون :
      وتتحدد أهمية الادب والفنون في أنها تقدم أفضل النماذج لذلك التنظيم ، وهي بذلك تقدم العون (للقيم) (وهي ليست وصفات أو رسالات ، بل نماذج لعملية عامة ضرورية) . ويمكن الشروع في اعادة التنظيم العامة العريضة وصيانتها من خلال اختبار تلك القيم والالتفات اليها . وعلى ضوء هذا المعنى يمكن أن (ينقذنا الشعر) وهو : (وسيلة ممكنة تماما لقهر الاختلال) .
        وتكمن أهمية الفنان بدرجة أساسية في أنه يتاح له مجال الخبرة المتسع أكثر مما يتاح للشخص العادي . واذا نظرنا اليه من ناحية أخرى ، فهو أكثر قدرة على نوع (التنظيم) ، وبذلك يستطيع أن يتقبله الى مدى بعيد دون اضطراب . ومع ذلك سوف تعتمد فائدته في هذا على (توازنه النسبي) .
       نفهم من كل ما تقدم باختصار شديد ، أن النظام الثقافي (الثقافة المنظمة) المدعومة بالاخلاق والادب والفن هي البديل الناجع الذي يعيد للأضطراب توازنه مقابل اسقاط الفوضى الغوغائية .
        الفائدة العملية للثقافة :
        ما هي الفائدة الحقيقية المخلصة العملية للثقافة بالمعنى الذي أعنيه حين استعمل كلمة الثقافة ؟ ماذا تعني الثقافة بالنسبة لك عزيزي القاريء ؟ انها تكوين مجتمع خاص بك ، خاضع لتوجيهك – مجتمع يقوم على فرد واحد ، ويكون أغنى وأجمل وأكثر امتلاء من المجتمع الذي يمكن ان يكونه الانسان غير المثقف . ان مستوى حياتك يتوقف على قدرتك على التمتع بما يقدمه لك مجتمعك ، ولا يستطيع مجتمع المدن ان يقدم حياة غنية لهؤلاء الذين لا يستطيعون الافادة بأحسن ما في المدينة . اذا تركت جانبا ما في المدن من كتب وجامعات ومتاحف وقاعات للموسيقى وصحف ورجال موهوبين ، فماذا يبقى اذن ؟ شوارع قذرة ومنازل قبيحة وهواء ملوث ، وأجواء تعبق بالدخان ، وحياة بليدة رتيبة لا معنى لها .
      ان الاشياء التي لها أكبر قيمة في حياة المدينة هي الأشياء التي لا تكلف كثيرا ، على انها ليست أقل الاشياء كلفة . فهي تقتضي جهدا وفكرا وصبرا . ويستطيع كل انسان ان يحصل عليها ، ولكن ذلك لن يتم فورا دون جهد او وقت . وعلينا ان نعود أنفسنا الانتفاع بخير ما تقدمه لنا الحضارة المدينية ، والا فلن نفوز الا بأسوأ ما فيها . والأسوأ شيء كريه . 
       الثقافة العقلية منفعة تعليمية :
       لا احد ينكر ما للثقافة العقلية من منفعة تعليمية ، وان ثقافة الذهن خيرة في ذاتها وفي غايتها .وكما يمكن ان يكرس الجسد لبعض العناء الجسمانى او غيره من الكدح . فكذلك يمكن ان يخصص الذهن لمهنة محددة ما . ويمكن تدريب الذهن على نحو عام لكى يبلغ حالته الكاملة ، وهذا هو التهذيب .
     جماليات الثقافة :
      وتدور القضية في اطار (الصحة العامة) للذهن ، كما نميز بين لحظة (التورد المرضى) التى تصيب حضارة معينة ، وبين (الازدهار الصحى) لحضارة (قامت على اساس التهذيب) . والصحة هى معيار الجسد ، والكمال معيار العقل . فثمة جمال جسمانى وجمال معنوى. جمال يتعلق بالشخص وجمال يختص بوجودنا المعنوى ، الذى هو فضيلة طبيعية ، وكذلك يوجد جمال الذهن وكماله . وثمة كمال مثالى في الحالات الفردية في صعودها ، وهى المعايير لجميع الحالات .
      الثقافة نظام تعليمي :
      ان مرحلة انتشال النشأ الجديد من التعليم الشعبى التقليدى في مرحلة الثلاثينات من القرن الماضى في العراق ، الى ممارسة الطرق الحديثة في التربية و التعليم حولت لفظة (فوضى) الى لفظة (ثقافة) ،لأرتباط التعليم بالثقافة . فعندما كان الاستعمار يصفنا بالشر ونحن نصفه بالشيطان الاكبر ، رغم الحالة التعسة التى يقف فيها الشعب الفقير في مواجهة المحنة ، تبين لنا ان الشر كامن في مشاعرنا تماما بدرجة اكبر مما هو موجود فى ظروفنا الخارجية . وهذه الفترة هى احدى فترات الثورة والنهضة . ويعد التعليم من بين الاستجابات المناسبة . يشعر الشعب بحاجة الى التعليم والثقافة قبل ان يتفاقم الدمار بينهم بسبب الفقر والاستعمار .
      تتطلب جماهير شعبنا المضطربة وغير المنظمة منا تنظيما شاملا ، وكما ان الدور الذى يؤديه جسدنا لا يعنى ان تتداخل الاوعية الدموية الدقيقة مع الاعصاب البالغة الحدة فى الحساسية وبذلك يحيا كل عضو فيه حياة حقيقية .
      الثقافة دراسة الكمال :
      أعانتنا الثقافة عونا عظيما في التغلب على مصاعبنا الحالية ، او كادت على الاقل ، فهى متابعة الكمال التام عن طريق الحصول على معرفة احسن القول والفكر في العالم في الامور التى يهمنا معظمها ، وتوجه الثقافة تيار من التفكير الجديد المتحرر ، الى افكارنا وفولكلورنا المختزن القديم الملائم لعصر العولمة ، التى نمارسها الان بقوة وحزم وان كان بطريقة آلية ، ونتخيل عبثا ان ممارستنا لها على هذا النحو تعد فضيلة ربما تعوضنا عن الضرر الذى ينجم عن ممارستها على نحو آلي .
      وكثيرا ما يتوقف الاقتباس فى منتصف الطريق ، كما لو ان الكمال عليه ان يسلك طريق الكفاح لكى يظفر بمجرد المعرفة . وهذا ما كان في المرحلة الاولى فحسب ، على ان تتبعها اعادة فحص (الافكار والعادات المدخرة ) . بالاضافة الى ان الثقافة ، وهى دراسة الكمال ، تقودنا لأن نفهم الكمال الانسانى الحقيقي باعتباره كمالا متناسقا ، يطور انسانيتنا من جميع جوانبها ، وهو كمال شامل ، يطور مجتمعنا بأسره.
     تعنى الثقافة اذن كلا من الدراسة والمتابعة . ولا تعنى مجرد تطور (الثقافة الأدبية) بل تطور (انسانيتنا من جميع جوانبها) . ولا تعد نشاطا يقتصر على الأفراد فحسب ، او على فئة او شطر من مجتمع ، وانما شاملة .
      الثقافة الحرة :
      والثقافة الحرة .. استطيع ان امثلها بالجواد الصالح للركوب تماما ، الا انه عليك انت ان تحدد وقت ركوبك له . وانت تظن انه ما عليك الا ان تعتلى صهوة جواد الحرية هذا ، وان تنطلق مسرعا بأقصى ما يمكنك ، على ان تتأكد من انطلاقك نحو المقصد الصحيح . واذا كانت صحافتك تستطيع ان تقول ما فى هواها ، فأنت تظن انك على ثقة من معرفة احسن الانباء .
    الثقافة التى نوصى بها هى عملية باطنية قبل كل شيء . وهي تضع الكمال الانسانى فى حالة داخلية . بحيث تتعدى الحدود التى يقف عندها التفكير الآلى وتمقت الكراهية وتتمتع بعاطفة عظيمة متقدة هى الولع بالعذوبة والضياء . الا انها ، حالما تعتبر بديلا للدين فانها تصبح ذات قدر مشكوك فيه للغاية وبوجه خاص عندما تؤخذ فى اضيق معانيها ، كما يحدث فى اغلبية الاحيان .   
     وهكذا توجه الثقافة انتباهنا نحو التيار الطبيعى الكامن فى الشؤون الانسانية وطريقة عملها المتواصلة ، ولن تدعنا نعلق ما نؤمن به على اى فرد بذاته وعلى افعاله وحدها . وهى لا تجعلنا نرى جانبه الطيب فحسب ، بل ترينا ايضا كم من الامور الخيرة عنده كانت محدودة ومؤقتة بالضرورة .

                                          الباحث : علي الخفاف


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق