الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

الغناء والمغنين .. وفقدان التوازن 



        أن الفن الغنائي لن يستحق انتماء متواصلا في التصنيف الحضاري الا بعد أن يعكس روع العصر الذي يولد فيه . ولهذا فأن أي تلف يصيب الفن الغنائي مرده العجز في التعبير عن الهموم الاجتماعية وطموحات الانسان وغياب التذوق الجماهير لهذا الفن . صحيح ان الفن الغنائي في المراحل الوطنية الدقيقة لا يجب ان يختار طريقا سهلا للتعبير ، انما من المناسب فعلا ان يوظف الطاقة الحسية الكبرى المختزنة في أعماق الفنان . فالطريق الى الفن المشحون بالمعاناة المعبرة المنسجمة والمتآلفة يمر عبر الطاقة الحسية المعرفية العميقة للفنان .
       فهل استطاع الفنان العراقي ان ينجح في الاقتراب من مستوى الفن الحقيقي المطلوب ؟ وما هي الآفاق الجديدة التي استوعبتها الاغنية من خلال معمارها الفني ؟ وهل استطاعت الحداثة والعولمة الاخيرة أن تفقد الاغنية توازنها وتطيح بها نتيجة الهوس الذي اصابها ؟ وهل استطاعت الاغنية العراقية ان تحقق نقلة نوعية متطورة في مجال الاصالة والجذور ؟
       لا أحد يشك في أن الاغنية العراقية في سبعينيات القرن الماضي قد حققت نقلة نوعية في هذا الاتجاه ، فأن الاستخدام الأيقاعي قد طرأ عليه تغير جديد هو الآخر . فلم يعد صورة للدوي والضرب العنيف والنشاز الخالي من المضمون المعبر ، المشبع والمفصح عن تصاعد بنائي يرافق سير اللحن . ولم يعد ايضا صورة خاوية للأيهام بالحماسة المفرغة من المعنى الواثب المتفجر .
       احيانا نصاب بألم الخيبة ودوار الدهشة حيال شخص ضخم الجثة تهابه العصافير ذي ذراع يقف عليه التيس ، وشنب يستريح عليه الغراب ، يقف كالطاووس على المسرح ، وياليت لو يتسعه مسرح في عصرنا هذا ، وفجأة يبدأ بالتأوه والبكاء والعويل ، والتذلل والتشكي وطلب الرحمة ، كأنه طفل فقد لعبته ، وما ذلك الا لأن عشيقته ( لا حبيبته ) هجرته .. فيسقط المغني من العيون ويفقد الاحترام من الجميع ، ويفقد توازنه حد الاعياء فأي نوع من الرجال هذا ؟ وهل هذا طرب أم نكد ؟.
       نحن لسنا ضد الاغنية العراقية العاطفية المعتادة .. ولكن أي عاطفة هذه التي تخاطبنا بها أغانينا بالصراخ والعويل ، معظم ما نسمعه الآن اغان تخطاها الزمن ونوع من ايلام النفس وارهابها .. بل وافساد للذوق العام ، ألا يعاني مطربونا الا من العشق وبهذه الصورة المذلة والمعيبة ؟ اذا كان عليه ان يعبر عن الحزن والمعاناة ، فهناك آلاف الموضوعات يتغنى بها .
       ماذا يهم الناس من شخص فقد عشيقته ، الفنان يجب ان يقود الى الجمال ، وهدفه اسعاد الناس لا ايلامهم وتخديرهم ، لقد اضحت الاغنية العراقية خليطا من الاصوات وامتزاجا من الالحان الحزينة والمفرحة وتعالت هذه الاصوات حتى فقدت معانيها الادبية والروحية والفنية ، لماذا لا يتغنى بحب العمل المتقن والكفاح الفكري والتحرر من عبودية الرق العسكري والسياسي من الجهل  والامية والفقر المادي والفكري والحروب الفاسدة والمفسدة ؟ حب الناس والطبيعة ، الشعر العربي والعامي واغاني التراث الشعبي الفلكلوري الاصيل معين لا ينضب لمثل هذه الموضوعات .. بل اغاني السبعينات من القرن الماضي ارحم واهون ويحسد عليها قياسا مع اغاني اليوم .
       اذا اردنا ان نعرف مقومات الاغنية الجميلة ونقيس على ثباتها ، فهي التي تتمتع بثلاث صفات ، ( توازن وبساطة ووضوح ) .. أي ( الكلمة واللحن والأداء ) ، أغاني الخليج واليمن والمغرب تتمتع بألحان وايقاعات غاية في الجمال والتوازن كلماتا ولحنا وايقاعا آلاتا موسيقية .. وكذلك ألاغاني العراقية في حقبة السبعينات من القرن الماضي اكاديمية علمية وجميلة بألحانها وصورها الذهنية الشاعرية فلنطورها .. لا بالتقليد ، لكن بألحان جديدة تحمل نفس الروح والطابع بمصاحبة آلاتنا الأيلة التقليدية . وليس بالاساليب الخداعة المشتته المرقعة المزيفة بواسطة الكومبيوتر الرخيص . لأن جمالية الفن بأصالته وقيمه .
       ان ادخال بعض الآلات الغربية في تطويرها ليس الا قلة ذوق وافساد وليس تطويرا ، هذه اساليب مستوردة نشعر معها بأننا في سوق صفافير ، هذا تجني على الناس والذوق العام ، اننا نسرق حقوق حريتهم في الاستمتاع الحقيقي لفن الغناء الاصيل السليم المعتاد والمفتخر به قوميا ، فهل قدم لهم البديل ليختاروا ، ثم نحكم بعدها . ان الفن له علاقة وثيقة بطبيعة المجتمع وتذوقهم السليم  .
       ان عنصر التوازن مهم في العمل الفني .. ألمقصود بهذا التوازن أن يتوافر التناسق والانسجام والترابط ، ثم التوفيق بين العلاقات والنسب والايقاعات للاشكال ، والحجوم والفراغات والألوان والخطوط ، كذلك الأمر بالنسبة للأصوات والحركات والكلمات .. وذلك حسب نوع العمل الفني والغرض منه ، وعلى ان يقوم كل عنصر من عناصر العمل بدوره كاملا ، وألا يكون احدهما ضحية للعنصر الآخر مهما صغر ..والا اختل التوازن .
      ولا يتحقق هذا التوازن عبر الفنان الا ، بالشروط التي تأهله لذلك ، وهي ، ان يتحلى بالصدق والأمانة والاخلاص ، الصدق مع نفسه ومع الآخرين ومع التراث ، هناك من يمتلك الموهبة ، لكنه لا يملك الصدق والاخلاص ، فيغلب عناصر العمل واحدا على الآخر لمصلحته الخاصة ، مما يتسبب في اختلال التوازن المطلوب من عمله الفني .
      الفنان هو معلم وموجه للمجتمع ، وليس مطالبا بتلبية الرغبات الرخيصة لكسب المال والشهرة ، بل عليه تلبية احتياجاتهم ، ما يفعله هؤلاء هو انهم يستوردون بضاعة اجنبية لا تتفق مع ذوق واخلاق جمهوره الحقيقي .
       التراث العراقي جزء لا يتجزأ من التراث العربي .. لكن له طابعه الخاص ، أغاني المقام أصل جميع الاغاني العراقية ، يتأثر بالبيئة الطبيعية والاجتماعية المحيطة به ، فقد غني المقام في كربلاء ولو بشكل محدود ، ورغم ذلك سجل حضوره في قائمة التراث الغنائي الشعبي الفلكلوري ، والفن المستورد الى العراق اعتمد على النظريات المادية المتعثرة ، التي نظرت للانسان العراقي على انه مادة فقط بدون روح او تراث ، كالضفدع الذي ينفخ بطنه ليتحول الى بقرة ، لذا لم يهتم مخططوا العراق بتراثنا الحضاري ، الذي حرص على التوازن بين الروح والمادة ، وبهذا التطور السلبي أزالوا الفنون الشعبية التي هي جزء من تراثنا ، الآن انفصلت كل هذه الانشطة عن الفرد ، واصبح متلقيا ومستهلكا لها فقط من الكاسيت او الدسك والاذاعات التجارية الفضائية التلفزيونية .. وهذا ساعد على غربة ما نسميه الان من أغان ومغنين واصالة وتراثا وثقافة .
      
      

                                                 الباحث :علي الخفاف 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق