الأحد، 27 ديسمبر 2015




التربية الفنية.. وتذوق الجمال في المدارس













                                                                                                             الباحث : علي الخفاف


       
                                                                                     

       من نعم الله على الانسان أن خصه بتمييز الجمال . فمن منا لم يحسه أو يره ... وهو حولنا وفي كل مكان .. . في لوحات الطبيعة الرائعة ، في نفحات الشعراء ولمسات المصورين .. بل في باطن النفوس يتلألأ مجتذبا حبنا وأعجابنا ..
        نحن في الحقيقة ان كنا أميون فليس في القراءة فحسب ، ولكن في الفنون .
        لماذا نكره الجمال ؟ ان تربية الذوق الفني عند الجمهور بصورة عامة ، وطلاب المدارس بصورة خاصة ، يثير حديثا طويلا .. اذ ان جميع العوامل المحيطة بالانسان العربي تجعله يميل نحو كراهية الجمال الفني ..
       ونحن للأسف نعلمه القبح منذ نعومة اظافره ، عندما نقدم له كتبا مدرسية مشوهة الاخراج ، أو ممزقة نتيجة استعمالها من قبل الآخرين ، مما تنقصها كل عناصر الجمال .. فينشأ الطفل بعيدا عن الذوق الفني .. ومن هنا نراه يتصرف عندما يشب ويكبر تصرفات غريبة مثيرة .. نراه يمسك بالموسى ويقطع جلد المقاعد الوثيرة الجميلة التي يجلس عليها .. واذا رأى حائطا مدهونا نظيفا سارع الى تشويهه بالحبر والقاذورات .. حتى المصابيح الملونة الجميلة في النافورات المائية ، والحدائق والمتنزهات نجدها كلها مهشمة ومدمرة ، والزهور والاشجار الجميلة ، لماذا نقطفها من الحدائق العامة والمتنزهات ، وندوسها بالاقدام ؟
       لماذا كل هذا ؟ انها التربية الفنية التي تنقصنا ... ان الله جميل يحب الجمال ، فلماذا يصر بعضنا على تقبيح كل ما هو جميل .
       والناس الذين يشاركون في الذوق السائد في مجال الفن يميلون على الدوام الى اقناع انفسهم واقناع الاخرين ، بان الحيز هو مظهر من مظاهر الثقافة والنشاط الذي يمكن وصفه فحسب على انه الطريق الملائم للكائن البشري لاختيار اعمال الفن .
       ولكن الذوق في الفن ، في الواقع ، لا يقتصر على كونه مظهرا من مظاهر الثقافة وهو ليس في الواقع نشاطا ، وانما الذوق في الفن هو (موقف) متغير نسبيا مع الثوابت ، بما يحيطه من النشاطات ، وهو تحيز ناجم عن الاعمال الجديدة التي انتجتها الحضارة والثقافة في المجتمع حيثما توجد .
       ان الوسيلة الوحيدة التي يمكن ان نخلق بها الذوق الفني بين افراد مجتمعنا ، هي ان نبدأ معه من المدرسة ، ( لأن النبتة التي لا عرق لها لا يمكن ان تعيش او تزهر ) .. ولا يمكن ان ننسى ان اعداد استاذ التربية الفنية في المدارس من اهم الضرورات .. وهذا يجب ان يكون من خريجي المعاهد الفنية وليس من الشعبة الفنية التابعة لدور المعلمين ، حيث الدراسة الفنية مركزة ومختصرة ..
       انهم يقولون عنا في بلاد الخارج اننا شعب لا يقرأ .. والواقع اننا أميون ، لاتجاه الكتابة والقراءة فقط ، وانما تجاه الفنون .. اننا نجتر ماضينا اجترارا .. جمدنا تراثنا الفني الاسلامي ، ووقفنا به عند النقطة التي استلمناه فيها ، لم نستغله او نطوره ..
       أضف الى ذلك ان بلادنا هي مهد اغلب حضارات العالم العظيمة : اشورية ، وبابلية ، وسومرية ، واكادية ، وكلدانية .. كل هذا التراث الحضاري ، الذي لا يقدر بثمن ، يجب ان نعب منه عبا .. ولكننا للاسف نجهله جهلا تاما .

     التذوق الفني :

         يكاد يكون الفن هو الميدان الوحيد الذي تتناوله السنة الناس بالمدح أو الذم دون أن يعرفوا عن طبيعته شيئا . على العكس من ميادين أخرى كالطب أو الهندسة ، فالناس لا تقترب منها ما دامت لا تعرغ عنها شيئا .
         والسر في هذه الظاهرة يرجع الى طبيعة كل من الفن والعلم . فالفن بطبيعته كيان مفتوح يحمل المعاني والأحاسيس ، بينما العلم فهو كيان مغلق لا يعرف أسراره الا من كان على دراية به .
        من هنا كان الفن قريب من الناس ، وبالتالي أصبح التطاول عليه أكثر من التطاول على العلم . ومن هنا أيضا جاء الأعتقاد السائد بأن (الفن مهنة من لا مهنة له) ، أو أن الفن ليس بميدان تخصص ، لا أسس ولا قواعد ولا معايير بالنسبة له . لا سيما وأن كل تخصص ينبغي أن يكون له أسس وقواعد ومعايير ، والفن من هذا كله ، خلو منه ؟؟
       والحقيقة أن الفن بريء من كل هذا ، فهو ميدان تخصص ، له قواعده وأسسه ومعاييره التي يقاس بها ، وألا ما كان له وجود أو كيان يعرف به . ومن منا لا يشعر بوجود الفن وأهميته ؟! ان الانسانية على امتدادها الطويل ما عرفت عن شيء أكثر مما عرفت عن الفن . والحضارات القديمة والحديثة ما قامت الا وكان للفن دور بارز في نهضتها وتقدمها . ان الفن والانسان صنوان متلازمان ، بل أن الفن مظهر لوجود الانسان وتأكيد لحياته وكيانه .
        وشعورنا بقيمة الفن واعترافنا بوجوده دليل ضمني على أن له مواصفات أو خصائص . وهذا بالتالي دليل على أن له أسس وقواعد ومعايير يقاس بها . وما دام الأمر كذلك ، فالفن اذا مهنة أو صناعة أو مجال تخصص .
        ومهنة الفنان هي الفن ، بل ان الفن وسيلة الفنان في التعامل والاتصال بغيره من الناس . وعمليات الاتصال دائما ذات مسؤولية مزدوجة ، جزء منها يقع على المرسل والجزء الآخر يقع على المستقبل ، كما هو الحال في مواقف الحديث أو الحوار التي تدور بين الناس . فأذا ما تحدث شخص ، عليه أن يتحدث بصوت مرتفع وهذه مسؤوليته ، وعلى الثاني أن ينصت اليه وهذه مسؤوليته ، والا اختل الحديث وأصبح مشوشا وخال من الفائدة المرجوة منه .
       وعلى نفس الصورة ، وبنفس المبدأ تسير عملية التذوق الفني .فالفنان طرف في عملية التذوق وعليه جانب من مسؤوليتها ، والمستمتع طرف آخر وعليه جانب آخر من مسؤوليتها .

       قيم الجمال المادية والمعنوية :

       أن الانسان الفرد في استقباله لأنواع القيم أو المتع التي تأتيه من الحياة ، لا يفرق بين متعة معنوية وبين متعة مادية . لأنه انسان ذو كيان واحد ، ولأنه في نفس الوقت ، عندما يستقبل المتعة التي تأتيه من الشجرة التي أمامه مثلا ، لا يفرق بينها وبين المتعة التي تأتيه من الكرسي الذي يجلس عليه بعد يوم شاق طويل . ففي كلتا الحالتين لن يأخذ الانسان الشجرة ولا الكرسي بداخله ، وانما كل ما يجنيه هو آثار نفسية من تلك الشجرة ، وآثار نفسية من الكرسي كأنسان ذو كيان واحد . بذلك فالقول بأن هذه متعة معنوية وتلك متعة مادية قول غير صحيح .

الفن .. طبيعته وخصائصه في زمن العولمة

     الفن كما نراه ، أثر ابداعي جمالي يجسد المعرفة الحدسية ، اذ ان الفنان لا ينقل ما تراه عينيه فحسب ، بل ما يحدسه . وهو كثيرا ما يتجاوز الواقع والطبيعة المألوفة ، لا سيما في عصر العولمة، حيث اصبح الفنان بعيدا عن موضوعه ، معتمدا على خياله المجرد ، او على عقله الباطني وعالم الا شعور ، او الحركة الآلية العشوائية ، او اعتماده على الآلة الالكترونية (الحاسوب) .
      أما الموضوع في الطبيعة فما هو الا لوحة مستقلة ، لا علاقة لها بأثر الفنان . ولهذا فان الابداع هو الصفة الاساسية التي تميز الفن عن سائر النشاطات الانسانية . فهو محاولة للتجاوز ، محاولة لكشف عما وراء الصورة والصوت والحركة ، انه في حقيقيقته فيض امكاني ، وهو (الحياة المكثفة).
      ان طبيعة الابداع تعني الكشف المستمر عن الجمال فهو ثورة دائمة . وان القيم الجمالية نسبية عند الفنان ذاته ، والجمال الذي يعبر عنه الفنان يختلف عن الجمال في الطبيعة ، فالجمال يقع في ذات الفنان وليس موضوعه .
      تتطلب عملية الابداع نوعا من الامتلاء الروحي والثقافي والجمالي والتراثي والحضاري . باعتبار ان (الفن هو الانسان مضافا الى الطبيعة ) .
      على اننا لا نستطيع ان نهمل الطبيعة كليا من حساب الفنان ، اذ لا بد له من الافادة من عناصرها الاولية ، ولكن الفنان ، رغم فوائده تلك ، يخون هذه العناصر لكي يعود الى روح عمله الفني .
      نحن نرى ان الفن في زمن العولمة هذا يلقي الكثير من الصعوبة لتذوقه ، وان كان في حد ذاته الكاشف الصحيح عن مرحلة معينة من مراحل الثقافة ، كما حصل لكثير من الفنانين المحدثين .
     ونرى على هذا السياق ايضا ، ان مهمة الفن هي الكشف عن الحقيقة بشكل حسي في صياغة فنية .. وللفن غاية في ذاته في التصوير والكشف بالذات . اذ ليس للغايات الاخرى الانسانية كالوعظ والتطهير والتقويم والكسب والمجد والحصول على الالقاب اية علاقة بالمؤلف الفني كمؤلف فني ولا تحدد مفهومه
      على انه لا بد لتوضيح طبيعة الفن من تحديد خصائصه التي يمكن تحديدها بالعناصر (الانسانية ، والحرية ، والجمالية ).
      نحن نعرف من خلال هذه العناصر الثلاث ، ان الفن ظاهرة انسانية ، ترتبط بفاعلية راقية ، وهذه الفاعلية تحتاج الى وعي وثقافة وارادة ، وهذه جميعها لا تتوفر الا في الانسان ، فجميع التجارب التي اجريت على الحيوان ، لاختبار كفاءته الفنية ، باءت بالفشل الذريع .
      ان الجمال في ذاته ليس له وجود ، ولا بد لقوة فاعلة حاسة من ان تكشف عنه او ترمز له باشكال من الطبيعة او من عاطفة الفنان ، او بتعبير اخر ان الشيء الجميل يحتاج من يحبه (الله جميل .. يحب الجمال ) . ان اهمية الجمال في من يصنع اطارا للتعريف به ، اي في العين الفنية ، وهذا يعني ان من يسعى للكشف عن الجمال ، يجب ان يتحلى بالحساسية والارادة .
       والحساسية الفنية هي نوع من الارهاف الحدسي ، الذي يدفع الفنان لادراك الجمال ، دون سيطرة العقل او الشعور او الخيال .
      اما الارادة فهي مظهر الاتزان ، وهي ايضا الوسيلة لقلب الحدس الى فعل . فالصفة الاساسية للانسان الفنان هي العمل ، ويبقى الانفعال او الحدس المجرد عن الفعل ، هو من خصائص المتذوق ، اما الفنان فهو الاداة الفاعلة المعبرة ، المسؤولة عن الابداع والكشف .
      ولان الفن فاعلية ابداعية ، فهو يتطلب الحد الاعلى من ( الحرية )، و (الجمال) هو الحقيقة التي تجذب الفنان بالحاح ، والجمال صفة (انسانية ) عامة ، وهو فوق الخير والحق ، اذ ان ما هو خير وحق هو جميل بالضرورة ، ولكن ليس كل ما هو جميل خير وحق . فالجمال هو الصفة العامة المطلقة للانسان ، ولذلك فهو حقيقة انسانية يسعى وراءها الفنان المبدع .

         المقترحات :

           ومما نأمل تحقيقه في هذا المجال التربوي والحضاري والثقافي ،ما يلي :
        _ الاهتمام الجاد بتدريس الفنون في المراحل التعليمية المختلفة .
        _ انشاء متاحف للفن المعاصر وتبادل الاعمال الفنية بين المتاحف . لا سيما الفنون الشعبية والتراث التقليدي .
        _ عمل افلام وثائقية عن الفنانين .
        _ اقامة معارض وثائقية عن وحشية الصهيونية والارهاب ضد الانسانية .
        _ استخدام الفنون التشكيلية في تزيين المدن . واشراك الفنان التشكيلي في مجالس المحافظة .. وتخصيص نسبة معينة من كلفة المشاريع والاعمار للفنون التشكيلية .
        
       
الباحث :علي الخفاف
       (نشرت في مجلة مدارات تربوية – العدد 21 – السنة الخامسة – نيسان 2013 – مجلة دورية تصدر عن المديرية العامة للتربية في محافظة كربلاء ) .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق