فولكلور
صالونات المجالس النسائية
(مي زيادة) عروس الادب النسائي أنموذجا
كان من شأن الكثير من النساء المتعلمات
الشريفات في فرنسا ، في اوائل القرن السابع عشر ، أن يعقدن في منازلهن مجالس عامة أدبية
، تجري فيها المذكرات العلمية والفنية وتلقى فيها المحاضرات . وكانت تلك المجالس أو (الصالونات) كما كانوا يسمونها تضم بين حواشيها رجال الفضل والادب
ومشاهير الشعراء والكتاب من عظماء فرنسا .
وكانت المحادثات التي تدور فيها
تغلب عليها صفة التحذلق والتأنق والتظرف وهو امر طبيعي في كل مجتمع يجمع بين الرجال
والنساء فنشأت مع الايام بين هؤلاء النساء (لغة خاصة ) في الاحاديث والمكاتبات منشؤها رغبة المتكلمات او
الكاتبات في إيجاد عبارات لبقة ظريفة تلفت النظر الى المعاني التي يردن التعبير عنها
أو بعبارة أخرى تلفت الرجال الى جمالهن ورقتهن .
ثم مازلن يغرقن في ذلك حتى اصبحت
تلك اللغة موضع سخرية الادباء والناقدين ، لاسيما عندما جاء دور الانحطاط الاخلاقي
وانتشار الفوضى في الهيئات الاجتماعية وتقليد نساء الطبقات الدنيا نساء الطبقات العليا
في شمائلهن واساليبهن وزعمهن ان لهن الحق في الاشراف على الادبيات في فرنسا ونقدها
وتمحيصها .
تلك الطائفة من النساء هي التي
كانت تتعرض احيانا الى النقد الادبي من لدن الكتاب والروائيين كموليير وبوالو . ومع ان تلك اللغة قد زالت وانقرضت ومرت عليها القرون
فلا يزال باقيا منها حتى اليوم بعض آثارها مثل (سميك الذكاء) و (ظلمة النفس) و (قسوة الكلمات) و (الدستور المتواضع) وامثال ذلك من الكلمات الطائرة في جو الخيال والسابحة في بحر اللانهاية .
ومن المواضيع التي تعد في امسيات
هذه الجمعيات او الصالونات ، عن (الحب) ، و(موقف الوداع) ، و(النظرة الاولى ) ، و(الغيرة ) ، و(الأمل الضائع ) ، وما الى ذلك .
عصر الجاهلية والاسلام :
أما على مستوى النساء العربيات
، فقد ذكر التاريخ (صالون) السيدة سكينة بنت الحسين (ع) ، الشاعرة التي شهرت بجمالها واناقتها وندواتها ، والتي كانت تحسن نقد الشعراء
والمفاضلة بينهم عن علم وذوق ، التي كان لها الاثر في توجيه الذوق الادبي ، ولفتها
انظار ابناء جيلها ، وكان كثير من الفتيات يحاولن تقليدها في ارسال شعرها وراء ظهرها
بعناية . ومثلها عائشة بنت
طلحة الاديبة العالمة التي عرفت بجمالها وعفتها واخبارها مع الشعراء كثيرة ولها مجلس
معروف عند هشام بن عبد الملك تجلى فيه علمها امام شيوخ امية .
العهد المغولي :
كان الضرر الذي أحدثه الغزو المغولي
بالحياة الادبية كبيرا جدا فتعرضت للركود وقلة الابداع ، وكان الحكام والسلاطين تظاهروا
برعاية الادب وسعوا لاستقطاب الادباء فكانوا يعقدون المجالس في بعض ليالي الاسبوع ،
للعلماء والادباء وبخاصة ليلة الجمعة وخصصوا المكافآت والجوائز الثمينة لهم .
فضلا عن المجالس التي كان الادباء
يعقدونها في بيوتهم يتبارون فيها في الشعر والخطابة وكانت دور بعض الاعيان مجمعا للافاضل
والأئمة والاشراف والكتاب والشعراء وكانوا يدعون فيها الى محاربة الزندقة والكفر .
وكانت المرأة في العصر المغولي
، لم يكن الخروج على القيم الاجتماعية والتقاليد العربية يمر بها دون عقاب ، فكانت
من تخطيء تتعرض للعقاب الصارم ، كأن تحصب مع الخاطىء أو ترمى في جب لتهلك فيه ، او
تقتل قتلة شنيعة . وكان مجال الاختلاط بين المرأة والرجل نادرا ، وبخاصة أثناء الاحتفالات
والاعراس حيث تجرى إحتفالات النساء بمعزل عن الرجال . إلا أن هناك بعض المجالات والمناسبات
التي تزول فيها تلك القيود ، مثل مجالس الوعظ في المساجد وتكايا الصوفية ، وكذلك الاسواق
العامة لكنها كانت تظهر هناك محجبة ، باستثناء الحمامات النسائية العامة .
العصر العثماني
:
عانت المرأة العراقية كثيرا
من ظروب الاضطهاد والاستغلال والاستبعاد والتخلف الذي عانى منه شعبنا في الفترة التي
خضع فيها للاحتلال والاستعمار والتسلط العثماني وقبلها وما بعدها . وعلى الرغم من ذلك
، فقد استطاعت المرأة أن تسهم في بعض المجالات الى جانب الرجل في ميدان العمل وأن تتجاوز
حالة التخلف والقيود المفروضة عليها .
كان للمرأة شأن في المعارك والحروب
، بخاصة في إثارة حمية المحاربين وحماسهم . إذ عندما تندلع الحروب تشهد النساء المعارك
فينشدن الاهازيج بحق الرجال الشجعان لتشجيعهم على متابعة الحرب ويقذفن بالشتائم وجوه
الخوارين والجبناء من الذكور . كما يمددن يد المعونة الى المصابين والجرحى ويقع على
عاتقهن حراسة الاسرى والمغلوبين ، وهن على الدوام يفكرن في طريقة جديدة لزيادة دورهن
في مثل هذه العمليات . واذا ما استشهد أحد الرجال المحاربين في إحدى هذه الوقائع فانه
سيكون موضوع اعتزاز وافتخار أسرته .
وليس ذلك فحسب بل ان المرأة العراقية
قامت بدور السفيرات في الحروب في بعض الاحيان .
حكاية : عندما قامت حالة حرب بين أحد شيوخ العشائر العراقيين والدولة العثمانية في
منتصف القرن التاسع عشر ، بعث ، بعث ذلك الشيخ بزوجته لتفاوض قائد الحملة العثمانية
، فاستقبلها القائد استقبالا فيه كل مظاهر التقدير والاحترام وانزلها في ديوانه .
ويدل هذا الامر على مدى الثقة
التي كانت تتمتع بها المرأة العراقية والادوار المهمة التي كانت تناط بها في بعض الاحيان
.
ولا يندر ان يقوم بين المجتمع
البدوي نساء ذوات عقول راجحة وإرادات قوية فيبرزن ويلعبن أدوارا هامة في حياة القبيلة
، وبالذات في الحياة السياسية .
حكاية : هذه عمشة زوجة صفوق سلطان شيخ شمر الجرباء ، كانت موضع ثقة زوجها ، وترسخت
الثقة في قلوب أبنائها لما تمتلكه من جانب الحنكة والدهاء في تسيير العلاقات العامة
للقبيلة ، ولذلك فقد كانت هي التي تجيب على الرسائل التي ترد الى ابنها ، واتخذت لها
كاتبا امينا تملي عليه رسائلها ويقرأ عليها الرسائل الواردة . بحيث أن الرحالة الفرنسي
(لجان) أظهر غعجابه من هذه الممارسات السياسية للمرأة البدوية .
وهناك حالات مماثلة بين بعض النساء
الكرديات اللواتي مارسن أمورا سياسية بارزة . وربما كان أشهرهن : فاطمة (السيدة عادلة)
في منطقة حلبجة ، والسيدة (فاطمة خانم) في منطقة راوندوز التي كانت تدير شؤون ثماني
قرى ، وتقوم بكل الاعمال التجارية والسياسية المعروفة .
عصر النهضة العربية :
في الوقت الذي قلت فيه وسائل العلم والمعرفة الحديثة كالمدارس والمعاهد والجامعات
، وانعدمت فيه وسائل الاعلام كالاذاعة والتلفزيون والصحف والكتب والمجلات ووسائل الاتصال
الألكترونية السريعة (الستلايتات والموبايلات) وغيرها ، لم يكن أمام الناس وسيلة لزيادة
معرفتهم وثقافتهم سوى الحضور الى المجالس والندوات الادبية والمعرفية والعلمية التي
كانت تعقد في المساجد في إحدى حلقات رجال العلم البارزين ، أو في بيوت الفئات المثقفة
في المجتمع ، التي تولي العلم وأهله رعاية خاصة .
وكانت هذه المجالس تضم اليها الناس
من مختلف فئات المجتمع ، لا يجمع بينها الا حب العلم والثقافة والادب ، وكثيرا ما تحولت
هذه المجالس الى ندوات فكرية ، في النصف الاول من القرن التاسع عشر . إذ كان يختلف
الى هذا المجلس رواد العلم والثقافة والشعر والادب ، مما كان له أعظم الاثر في إنعاش
النهضة الثقافية في العراق . وظلت هذه المجالس تعقد ويفد اليها العلماء حتى أوائل القرن
العشرين ، بحيث صارت تقليدا يمارسه كثير من مثقفين وأدباء العراق المعروفين .
ومع أن المجالس الثقافية والادبية
كانت في الغالب مجالس علمية وادبية بحتة ولكنها كانت تخضع لرقابة شديدة من قبل السلطات
العثمانية ، التي كانت تخشى أن تتحول هذه المجالس الى أماكن مفتوحة لانتقادها ، إلا
أننا نجد أن قسما منها لم تتردد في بحث بعض المشكلات الاجتماعية وإيجاد الحلول الناجعة
لها .
وعرفت مدن عربية كالقاهرة ولبنان
وسورية ، وعراقية منها الحلة والنجف والموصل والبصرة وكربلاء ، مثل هذه المجالس الادبية
والعلمية والثقافية ، التي هيأت حياة جديدة للناس لم يألفها أولئك الذين عاشوا في القرون
السابقة التي خيم عليها ظلام الجهل في عهود السيطرة الاجنبية بعد سقوط بغداد حتى أنها
شبهت بأسواق العرب المعروفة في عصر الاسلام وما قبله .
ظاهرة الادب النسوي :
الا ان الظاهرة الغربية انعكست
وضربت بصداها الأدب النسوي في البلاد العربية ، ابان عصر النهضة القديم والتقليد الغربي
الاعمى ، فأصابت النخبة من النساء الاديبات العربيات الجريئات . ولم يذكر التاريخ بعد مجلس (صالون) سكينة بنت الحسين ، وعائشة بنت طلحة اي خبر عن صالون
لأمرأة عربية ، فقد توقفت هذه الظاهرة الجريئة ، بسبب انكماش المرأة وتقوقعها وتقييدها
خلال العصور التركية (العثمانية) .
عصر النهضة الادبية الحديثة :
وظل الامر كذلك حتى بداية عصر
النهضة الادبية الحديثة ، حيث خرجت المرأة العربية من عزلتها الخانقة ، واختلطت بالرجال
، فكان هناك صالون الشاعرة مريانا مراش في حلب ، ومي زيادة ، ونازلي فاضل في مصر ،
وثريا الحافظ وكوليت خوري في دمشق .
صالون مريانا مراش :
فقد كانت مريانا مراش (1849 - 1919 ) اول اديبة سورية ظهرت
في ميدان الشعر والادب ، وكتبت في الصحف . وظهور امرأة تكتب في الصحف وتنظم الشعر ، وتلتقي
الادباء في منزلها في تلك الفترة المظلمة ، امر له دلالته . ولعل صالونها الادبي كان الوحيد من نوعه في الشرق
، قبل ان يكون صالون مي زيادة في وادي النيل ، ولعل سفرها الى اوروبا ، واطلاعها على
معالم الحضارة الغربية ، ومشاهدتها الكثير من امثاله عند السيدات الغربيات ، كمدام
دي ستايل ، ومدام دي نواي ، هو الذي شجعها على اقامة هذا الصالون الذي سبقت فيه غيرها
، بالرغم من ضيق الحياة الاجتماعية ابان الحكم التركي .
كان رواد صالونها نخبة من ادباء
حلب يومذاك كقسطاكي الحمصي ، وجبرائيل الدلال ، وكامل الغزي ، ورزق الله حسن وغيرهم
، يلتقون فيه على موعد ليتناشدوا الاشعار ، ويتناقشوا في الادب ، اما مريانا فكانت
تحوط الجميع في جو من الالفة والمودة والرعاية ، حتى يخرجوا من عندها راضين يلهجون
بلطفها وحسن معشرها ، وطيب لقياها ، ومسحورين بالانغام الجميلة التي كانت تعزفها على
آلة البيانو.
يقول قسطاكي الحمصي ، وهو واحد
ممن دأبوا على حضور صالونها الادبي : ( كانت مريانا مليحة القد ، رقيقة الشمائل ، عذبة المنطق ، فكهة الاخلاق ، طيبة
المعشر ، تميل الى المزاح ، حسنة الجملة ، عصبية المزاج ... وكان منزلها في حلب مثابة الفضلاء ، وملتقى الظرفاء
وعشاق الادب ، وكانت لنا عندها منزلة ترتد عنها اعين الحساد كليلة .... فسقيا لأيام الشباب ، ومجالس الآداب والأحباب ، ومساجلاتنا
بالمحفوظ والبدية من الاشعار ، ورقصنا على العود والمزمار ) .
ولكن عندما اسرف الأتراك في التضييق
على احرار الفكر ، وضغطوا على حملة الاقلام ، بحجة انهم يشكلون خطرا عليهم ، اضطر هؤلاء
الى مغادرة البلاد ، تاركين في الوطن اهلا واحبابا ، فأقفر الصالون من رواده ، وكان
جبرائيل الدلال في طليعة من فروا الى باريس ، ومن هناك اخذ يراسل صديقه قسطاكي الحمصي
، ويصف له الحرية القصوى التي يتمتع بها الفرنسيون ، وقد رضي بالغربة دارا ومقاما ما
دامت تصون كرامته ، وتحمي عرضه من الأذى :
واذا لم يكن هنا غير ان الحر فيها
يعيش دون منازع فهو يكفي حظا لقلبي وان سالت على غربتي غروب المدامع ، لم تبق لي الأراذل
في الشهباء من مأرب ولا من مطامع .
واذا ذكر الشهباء فلا بد ان يتذكر
مجالس الأنس عند مريانا مراش ، ربة الفضل والفضائل كما يقول ، ويحن الى تلك اللقاءات
الجميلة في ردهتها الانيقة :
لا ولا اشتهي سواكم ولا ارغب فيها
من بعد تلك الوقائع . غير قرب الفريدة اللطف
ذات الصون والحسن والذكاء والبدائع ، ربة الفضل والفضائل (مريانا) التي ذكرها يسر المسامع .
صالون نازلي فاضل :
عرفت مصر صالون الأميرة نازلي فاضل ، وكان ارستقراطيا يجمع في دارها بعابدين
كبار المصريين والأوروبيين ، وكانت الأحاديث في هذا الصالون تتصل غالبا بالقضايا السياسية
ووسائل الاصلاح الاجتماعي والديني التي كانت تشغل الناس في ذلك الوقت ، وكان سعد زغلول
، وسواه يشهدون هذه الاجتماعات ، ويشاركون في ما يدور فيها من الأحاديث ، وكانت آثار
ذلك تظهر في الحياة العامة لهؤلاء الناس . وعلى الرغم من ذلك ، فقد كان ضيقا مغلقا ، لا يصل
اليه الا الذين ارتفعت بهم حياتهم الاجتماعية الى مقام ممتاز ، ولم تكن الحياة الادبية
الخالصة تشغل الذين كانوا يختلفون اليه . وهكذا صار صالون نازلي لخاصة الخاصة من السياسيين ، أو قل صالونا اجتماعيا فرنسيا
.
صالون مي زيادة (أنموذجا) :
وتمثلت ظاهرة الصالونات النسائية
العربية ايضا في شخصية الآنسة اللبنانية (مي زيادة) .
التسمية :
وعن إسمها هذا تنوه في رسالة
لها كتبتها الى جبران خليل جبران يوم 29 مارس (آذار) سنة 1912م فتقول : ( أمضي – توقيع
– مي بالعربية ، وهو إختصار إسمي ، ويتكون من الحرفين الاول والأخير من إسمي الحقيقي
الذي هو ماري وأمضي إيزيس كوبيا بالفرنجية ، غير أن لا هذا إسمي ولا ذاك ، إني وحيدة
والدي وإن تعددت القابي ) .
ونعرف تفاصيل أكثر عن معنى إسمي
مي من حديث لها الى مجلة المكشوف نشر في عدد 16 أيار سنة 1938م ( ... وهو قليل التداول
في تسمية الفتيات .. ومن أسماءعرائس الشعر واتفق كذلك أنه مكون من أول حرف وآخر حرف
من إسم ماري ، كما أن مي باللغات الاوروبية هو تصغير ماري للتحبب وأخيرا لأنه الاسم
الذي أحبته والدتي وسميت به يوما من الايام ... والدتي هي التي اختارت لي اسم مي ،
فقد تذكرت أنها عندما كانت في المدرسة عهد اليها مرة بتمثيل دور مي في رواية لكورناي
وكان مترجم الرواية قد عرب اسم كاميلي الى مي فكانت حلاوة هذا الاسم لا تزال على شفتيها
بالرغم من مرور السنين ) .
صورة حسية لمي :
في رسالة من رسائلها الى صديقتها
السيدة جوليا طعمة دمشقية ، رسمت مي لوحة حسية لصورتها ، فبدت صورة ذاتية رائعة ودافقة
بالإنطباعات في ألوان خلابة تملك المشاعر وخطوط مرهفة تستأثر بالألباب قائلة :
( صحيح أنك لم تهتدي بعد الى صورتي
فهاكها : إستحضري فتاة سمراء كالبن أو كالتمر هندي ، كما يقول الشعراء أو كالمسك كما
يقول متيم العامرية ، وضيفي اليها طابعا سديميا – فليسمح لي البلاغيون بهذا التعبير
المتناقض – من وجد وشوق ، وذهول ، وجوع فكري لا يكتفي وعطش روحي لا يرتوي ، يرافق أولئك
جميعا استعداد كبير للطرب والسرور واستعداد أكبر للشحن والألم – وهذا هو الغالب دوما
– واطلقي على هذا المجموع اسم مي تري من يساجلك الساعة فلمها ) .
وهناك صور حسية أخرى ، حيث نعثر
على صورة حسية لمي وصفها سلامة موسى ، ويعرض الدكتور منصور فهمي في محاضراته عن مي
في معهد الدراسات العليا التابع للجامعة العربية صورة حسية دقيقة لمي . فضلا عن الشعراء
كشبلي الملاط والشاعر اسماعيل صبري وغيرهم .
داخل صالون مي :
فتحت (مي) صالونها الادبي للمفكرين من جميع الطبقات
، يدعون او يستدرجون اليه استدراجا فيلتقي بعضهم بعضا ، ويتحاورون في قضايا الادب والفن
والفكر ، وكانت تكتب العربية والفرنسية ، وتقابل الرجال وتتحدث الى الادباء واهل الفكر
، ويتحدثون اليها ، وفيهم اكثر من اعزب عاش حياته بلا زوجة ، وهم جميعا بين متزوج واعزب
، يضطربون في مجتمع لا تبدو فيه المرأة الا كالطيف ، واذا اسفرت واحدة من النساء ،
كانت كالمحجبة تماما ، لانها لا تحسن حديثا يشوق الرجل المثقف او يمتعه ، او يثير خياله
، او يوحي اليه او يلهمه بفكرة او عاطفة او خاطرة .
لكن صالون مي زيادة بقي في الطليعة
، فقد كانت هذه الأديبة (1886 - 1941) تمتاز بصباحة الوجه ، وحلاوة الحديث ، وتحيط بالثقافتين العربية والأجنبية احاطة
تامة . وقد ظل صالونها مجمع
الأدباء ، ورجال الفكر والسياسة ربع قرن ، حيث يجري الحديث عن كتاب ظهر في باريس ،
او عن نجم من نجوم الفن والأدب في لندن ، او عن الأحوال الاجتماعية في المانيا . وكانت مي تشترك في الحديث وتديره بذهن يقظ ، وذكاء
مدرب ، ولباقة نادرة ، فهي فتاة تحب الحياة الاجتماعية ، وتتذوق معطياة الحضارة . لكنها ظلت مع ذلك تعيش في بيئة محافظة ، وتكتب بتحفظ
، مؤثرة الاحجام على الاقدام ، ولذلك تفوقت احاديثها على مؤلفاتها كما يقول سلامة موسى
.
اعتادت مي ان تستقبل كل يوم ثلاثاء
نخبة من الأدباء والفنانين والمفكرين في صالونها الكائن في الطابق العلوي من احد مباني
جريدة الأهرام بشارع مظلوم باشا في القاهرة فيتباحثوا في شؤونهم ، ويتبادلوا الرأي
في نتاجهم ، وكأنما ربطت بينهم صلة عائلية وثيقة . وكانت تتولى هي الحديث وتوزعه بين الحضور ، وتقدم
لهم شراب الورد اللذيذ ، ففرضت على الجميع احترامها . ولعل خير دليل على براعتها النادرة ، ادارتها المجمع
يوم انعقد للتشاور في الاحتفال باليوبيل الذهبي لمجلة المقتطف ، وقد حضره حوالي ثلاثين
كاتبا ووزيرا ووجيها ، فرقت بين اكثرهم المنازعات السياسية الى حد التقاطع والعداء
، فقضى الجميع عندها ساعتين نسوا خلالهما ان في البلد احزانا ، او منازعات سياسية .
ولذلك فقد تجمع حولها عدد غير
قليل من الرجال ، بعضهم مثلها من لبنان وسوريا ومصر . وكانت تتبادل مع بعضهم الرسائل ، ومن هذه الرسائل
، ومما نشر عن احاديث الندوة ، تحس ان هذه الاحاديث تكاد تكون غزلا مستورا بين صاحبة
الندوة وزائريها . فالجميع يحاولون التودد
اليها في تحفظ واحتياط ، وهي تستثير عواطفهم ،اذ تتلطف معهم ، وتتقرب وتبتعد من الواحد
منهم بعد الاخر ، وفي حضور الاخرين ، ويخرج كل منهم من دار الندوة ، وهو اسعد حالا
، واطيب نفسا . ولعل بعضهم كان يخرج
من هذه الندوة وهو يحسب انه ظفر من ودها والتفاتها باكثر مما ظفر سواه.
لقد طبعت مي اثرا جميلا في مجتمعها
وقتذاك ، فاذا حضرت لتلقي محاضرتها تجد قاعتها ممتلئة فلم يبق مكان لواقف او جالس ،
وعندما تظهر على المنصة وفي يدها منديل ، ورأسها تميل في دلال لطيف يمينا ويسارا تتابعها
الانظار وتلاحق حركاتها في شغف ، وكانت تحرك شجون السامعين بنبرات صوتها ، وطريقة ادائها
، فكأنها ام كلثوم في حفلاتها الغنائية . وهناك شبه بينهما من حيث تكوين جسميهما ..
وعلى هذا الحال ، اتسع هذا الصالون
الفريد من نوعه في المشرق العربي لمذاهب القول ، واشتات الفكر ، وفنون الادب ، فكان
مكانا للحديث بكل لسان ، فكانت مي تتقن العربية والفرنسية والانجليزية والالمانية والايطالية
، وتلم بالاسبانية واللاتينية والسريانية واليونانية . وناهيك عن كل علم ، وملتقى لجميع الطوائف والاديان
دون استثناء ، فكم من مناقشة حادة جرت بين الشاعر اسماعيل صبري والمطران دوريان وشبلي
شميل (الدارويني) الذي كان يمتطي صهوة كرسي الخيزران كالقائد العام
في صميم المعركة ، فافترقوا متآخين ، وبالرغم من بياين معتقداتهم وميولهم في الدين
والعلم والفكر . وكانت مي تضفي على
هذه المجالس اشعاعا من ذكائها المتوقد ، وانوثتها الدافئة ، جعل رواد صالونها يستعجلون
يوم انعقاده ، ليعيشوا احلى الاوقات واسعدها كما يقول اسماعيل صبري :
روحي على بعض دور الحي هائمة
كظاميء الطير تواقا الى الماء
ان لم أمتع (بمي) ناظري غدا أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
صالون الكلمة الحرة والديمقراطية :
مرض اسماعيل صبري مرة - وكان من اكثر زوارها ترددا على الصالون - فهدد انه اذا لم يشف يوم الثلاثاء القادم ، فلن يعترف
بهذا اليوم ابدا , ولم يكتف بهذا بل
قال :
وأستغفر الله
من لحظة من
العنمر لم تلقني
فيك صبا
ويرى ان ذروة سعادته في تلك الساعة
التي يقضيها في صالونها الرحب ، ليستمع الى حديثها الناعم ، ويطفيء غلة قلبه الصادي
بؤية طلعتها البهية :
يا ظبية من
ظباء الأنس راتعة بين
القصور ، تعالى الله باريك
هل النعيم
سوى يوم أراك به أو
ساعة بت أقضيها
بناديك
وهل يعد
علي العمر واهبه ان
لم يجمله نظم الدر من فيك
ان قابلتك
الصبا في مصر عاطرة فأيقني أنها
عني تناجيك
وأنها حملت
في طي بردتها وأنها بعثت
به كيما يحييك
وقد وصف طه حسين صالونها وجلساته
التاريخية فقال : ( كان صالونا ديمقراطيا
او قل انه كان مفتوحا ، لا يرد عنه الذين لم يبلغوا المقام الممتاز في الحياة المصرية
. أذكر اني اتصلت بصالون مي بعد ان نوقشت رسالتي في
أبي العلاء ، وشهدت مي هذه المناقشة ، وشهدت فيما يظهر بعض الحفلات التي اقامها لي
الزملاء حينئذ . وطلبت الى استاذها
واستاذي لطفي السيد ان يظهرني في صالونها ، وكذلك عرفتها في هذا الصالون ، وترددت عليها
ايام الثلاثاء ، كما كنت القاها قبل السفر ) .
( وكان الذين يختلفون الى هذا الصالون متفاوتين تفاوتا شديدا ، فكان منهم المصريون
والسوريون والأوروبيون على اختلاف شعوبهم ، وكان منهم الرجال والنساء ، وكانوا يتحدثون
في كل شيء ، وبلغات مختلفة ، وبالعربية والفرنسية والانجليزية خاصة ، وربما استمعوا
لقصيدة تنشد ، او مقالة تقرأ ، او قطعة موسيقية تعزف ، او اغنية تنفذ الى القلوب . وقد اتيح لي ان اكون من خاصة مي ، بفضل الاستاذ لطفي
السيد ، فكنت اتأخر في الصالون حتى ينصرف الزائرون ، وفي ذلك الوقت كانت مي تفرغ لنا
حرة سمحة ، فنسمع من حديثها وانشائها وعزفها وغنائها . ولن انسى صوتها حين كانت تغنينا اغنية لبنانية مشهورة
(يا حنينة) وتغنينا في اللغات المختلفة ، وفي اللهجات العربية
المختلفة ايضا ) .
استطاعت مي ان تفتن اعلام عصرها
، رغم انها كانت عادية الجمال ، رصينة التصرف - كمصطفى صادق الرافعي ، وولي الدين يكن ، واسماعيل
صبري ، وعباس محمود العقاد ، ومصطفى عبد الرازق ، وجبران خليل جبران وغيرهم .. والسبب في ذلك انها كانت نادرة الذكاء ، واسعة الاطلاع
، قوية الجاذبية ، لبقة وانيقة ، لا يجالسها اديب او شاعر حتى يعجب بها ، ويظن انها
تحبه ... فهي تتكلم بسهولة
ولغة صحيحة ، ويرى من يصغي اليها انه مأخوذا بتلك النغمة الآتية من الاعماق ، تحمل
آيات البيان الى الآذان والاذهان ، كما يقول الدكتور نقولا فياض ، وقد تنتقل بالحديث
من العربية الى غيرها ، لألمامها بكثير من اللغات ، فضلا عما تعرفه من الفنون الجميلة
كالتصوير والموسيقى ، فلا تعرف مجالسها الملل ، ويخرج الجالس من عندها كأنه خارج من
وليمة تذوق اشهى الطيبات .
أفول مي الحزين :
الا ان مي انقطعت في عزلة عن مريديها
، وعن الكتابة في الصحف ، وفجأة تعرضت الى رفع قضية من بعض اقاربها عليها لتوقيع الحجر
عليها (بعد وفاة والدتها) ، وانها تعاني اضطرابا عصبيا . وقيل ان عزلتها الشديدة وانكارها القاسي لحاجيات
جسمها العاطفية ، اورثها هذا المرض ، واخذت تعالج في مصحة بلبنان .
وبذلك انطوت صفحة كاتبة من المع
كتاب العربية ، مع صالونها الثقافي الادبي ، كانت اثارها على اختلافها آية من آيات
الرقة ، تنضح بالانفعال الوجداني ، وتتسم بالحزن الهادىء ، وتمتاز عن غيرها من الكاتبين
بموسيقية وشاعرية تدل عليها . فلم تكن مي تصطنع اسلوب الرجال ولا تقلدهم ولم تكن رجلا في ثياب امرأة بل كانت
امرأة حقيقية حتى اطراف اصابعها ، وقد عاشت وحيدة وماتت في عزلة موحشة .
واغلب الظن ، ان السبب للتزعزع
النفسي الذي اصاب مي ، كان انتقالها الفسيولوجي من الشباب الى الكهولة . وهذا الانتقال كثيرا ما يخل بالاتزان الفسيولوجي
عند بعض النسوة وقد ماتت مي منذ اكثر من سنتين بعد سنوات قضتها في مستشفى الامراض العقلية
في لبنان .
ومخلفات مي الادبية كثيرة ، ولكنها
كانت في حديثها ابرع واذكى مما كانت في جميع ما كتبت . والغريب ان مي لم تتزوج رغم جمالها وثقافتها ، وذلك
لانها كانت تعيش في وسط شرقي ، ولو كانت مي قد نشأت في برلين او باريس او لندن لوجدت
الكثيرين ممن ينشدون الشرف والسعادة بالزواج منها والفخر والمجد بتصادق تاريخهم يتاريخها
. والا ، فمن يستطيع ان يستسيغ من اللبنانيين زوجة
تستقبل ضيوفها في صالون ادبي له حرية الصالونات الادبية في المناقشة والاختلاط . ولكن ربما صحيح القول ، ان مي عاشت عمرها قبل ميعاده
بخمسين سنة .
وفي ليلة من ليالي شهر اكتوبر
عام 1941 تعلن الممرضة ان المريضة
تنفسها يضيق ، ويحاول الطب عبثا انقاذها ، ثم تنطوي آخر صفحة من هذه الحياة العجيبة
لأديبة عربية ، ارادت ان تكون عربية بعقلها ، شرقية بوجدانها ، فدفعت ثمن هذا التمزق
آلاما ، كانت ثمن صدقها مع نفسها وحيرتها بين العالمين .
كما عبر الشاعر خليل مطران عن
الحنين الى الصالون حين قال في حفلة تأبينها :
أقفر البيت ،
أين ناديك يا (مي) اليه الوفود يختلفونا؟
صفوة المشرقين
نبلا وفضلا في
ذراك الرحيب يعتمرونا
وبعد ذلك جرت عدة محاولات لاقامة
صالونات ادبية تخلف صالون مي ، لكنها باءت كلها بالفشل . ان ظاهرة الصالونات النسائية الأدبية المتمثلة بين
مريانا مراش ومي زيادة ، لم تتكرر بعد في مجتمعنا المعاصر ، ان كل صالون نسائي عربي
هو نجمة مضيئة في المساء ، رغم حاجتنا الملحة لها كظاهرة حضارية وثقافية لكلا الجنسين
، الا ان املنا بلا حدود في التطور الشامل العالمي . والتنمية الأجتماعية ، لا سيما الادبية والفكرية
.
المصادر :
-
باقات من حدائق مي – فاروق سعد .
-
حضارة العراق ج10 – نخبة من الباحثين العراقيين .
الباحث
: علي الخفاف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق